تنظر الدبلوماسية السعودية في الوقت الحالي للقادم الجديد إلى البيت الأبيض بقدر من عدم الارتياح، وهو شعور يمكن أن يصف الموقف العربي عمومًا، والسعودي بشكل خاص، تجاه فوز الجمهوري دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
ولهذا الشعور ما يبرره، فأغلب التوقعات التي رافقت شهورًا طويلة من المعركة الانتخابية رجحت -وبقوة- فوز المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، استنادًا إلى استطلاعات الرأي الأمريكية المتواصلة، والتحليلات والآراء التي قدَّمها بغزارة خبراء أمريكيون وغربيون وعرب أشاروا جميعًا إلى فوز "مضمون" لكلينتون.
بيد أن إعداد الاستراتيجيات والخطط اللازمة للتعامل مع ما يمكن اعتباره "مفاجأة صادمة"، هو أمر يتطلب وقتًا، خاصة مع المواقف المعلنة لترامب تجاه السعودية، وتصريحاته التي تضمنت مشاعر غير ودية، بالإضافة إلى أهمية العلاقات الأمريكية-السعودية، والتأثير السلبي المتوقع لاهتزاز هذه العلاقات على المملكة، في وقت تتزايد فيه التحديات السياسية والاقتصادية التي تواجهها.
علاقات متوترة:
تتسم العلاقات الأمريكية-السعودية بوجود توتر واضح منذ انطلاق ما يُسمى "الربيع العربي"، وهو توتر اكتسب زخمًا جديدًا مع توقيع الاتفاق النووي مع إيران، وما يشبه الانفراجة المحدودة في العلاقات الإيرانية-الأمريكية. وبلغ التوتر ذروته في الأسابيع القليلة الماضية، مع تبني الكونجرس الأمريكي قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب (جاستا) رسميًّا، ودخوله حيز التطبيق. وعلى الرغم من أن القانون لا يشير صراحة إلى المملكة، فإن السياق العام يجعل المملكة هي المستهدف الرئيسي به.
وعلى الرغم من أن وصول هيلاري كلينتون إلى الرئاسة لم يكن يعني انفراجة تلقائية في هذه العلاقات المتوترة، إلا أنه كان سيضمن -على الأقل- وصول شخصية سَبَقَ للدبلوماسية السعودية التعامل معها خلال توليها منصب وزير الخارجية الأمريكية، بالإضافة إلى وضوح خطها السياسي ومواقفها من المملكة ومن قضايا المنطقة.
"اللا يقين" وسياسة ترامب:
حالة "اللا يقين" هي جزء أصيل من إحساس السعودية بصعوبة التعامل مع ترامب، فالتعرف إلى حقيقة سياسته الخارجية القادمة أمر يشوبه قدر كبير من الصعوبة، نتيجة غياب أي خلفية سياسية له تتيح القياس عليها.
وعلى الرغم من وجود تصريحات سابقة خلال حملة ترامب الانتخابية أظهرت بعض المواقف العدائية تجاه المسلمين وتجاه المملكة أيضًا، فإن السياسات التي سيتبناها لدى توليه منصبه في بداية العام الجديد قد تكون مختلفة، بحكم طبيعة المنصب.
وينتمي ترامب إلى الحزب الجمهوري، على الرغم من تبنّيه خطًّا مغايرًا للقيم الجمهورية الأساسية. ويشير تاريخ العلاقات الأمريكية-السعودية إلى أن العصور الذهبية في هذه العلاقات كانت مع الرؤساء الجمهوريين الذين حكمت المصالح الصرفة تعاملهم مع المملكة. كما أن القضايا التي شكلت -عادةً- نقاطًا للخلاف مع الإدارات الديمقراطية -مثل ملف حقوق الإنسان- لا تمثل أولوية تذكر في العلاقات مع الجمهوريين.
ويبدو أن ترامب سوف يسير على المنوال ذاته غير المهتم كثيرًا بملفات حقوق الإنسان والقضايا المتعلقة بها، وأن أولويته هي القضاء على الإرهاب والتطرف وتحقيق المصالح الأمريكية بالأساس.
ثوابت سعودية:
لا يزال من المبكر الحديث عن سياسة خارجية سعودية محددة المعالم تجاه التعامل مع الرئيس الجديد وإدارته، ومن المهم أن تأخذ الدبلوماسية السعودية وقتها لصياغة هذه السياسة، إلى أن ينجلي بعض الغموض المحيط بترامب وسياساته.
لكن من المهم الإشارة إلى أن هناك ثوابت تحكم السياسة الخارجية السعودية في تعاملها مع الولايات المتحدة الأمريكية، من أهمها العلاقات الأمنية والاستخباراتية، والتبادل التجاري، خصوصًا صفقات التسليح. ومن المتوقع أن تستمر إدارة هذه الملفات وفق صيغة "Business as usual"، ومن المستبعد أن تتعرض لاختلال كبير لأنها تتعلق بالمصالح المتبادلة للطرفين.
من جانب آخر، تدرك الدبلوماسية السعودية جيدًا أن أحاديث الحملات الانتخابية لا يمكن الاستناد إليها في صياغة سياسة خارجية للتعامل مع الرئيس الجديد، وهو ما عبَّر عنه بوضوح وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في مقابلة له مع قناة "سي إن إن" الأمريكية فور فوز ترامب، خلال تعليقه على تصريحات الأخير خلال حملته الانتخابية، ومزاعمه بأنها تعتمد على الولايات المتحدة وجيشها.
وقال الجبير إن "المملكة حليف قوي لواشنطن، وتتعامل مع الولايات المتحدة بندية، وتستطيع الاهتمام بنفسها، ولا تعتمد على غيرها ليقدم لها الدعم. وإن تصريحات الحملات الانتخابية تختلف. وبعد وصول الشخص إلى المنصب ومعرفته كامل الحقائق؛ فإن نظرته إلى الأمور تتغير وفقًا للحقائق وتقدير حقيقة العلاقات".
إيران وسوريا.. ملفات شائكة:
حالة "اللا يقين" تغلف بدورها ملفين شديدي الأهمية والحساسية للأمن القومي السعودي، وهما: علاقات الإدارة الأمريكية الجديدة بإيران، وتعاملها مع سوريا. وترى المملكة أن إيران تتغلغل بصورة فجة في المنطقة، وأن الاتفاق النووي الإيراني مع الولايات المتحدة والدول الغربية ورفع العقوبات جزئيًّا عن إيران ساعداها في هذا التوغل.
ومن ثم، فإن تصريحات ترامب خلال حملته الانتخابية المعارضة للاتفاق النووي يمكن أن تمنح المملكة قدرًا من التفاؤل، لكنه تفاؤل حذر، لأنها تصريحات خلال الحملة الانتخابية من جانب، ولأن إعادة النظر في الاتفاقيات المبرمة سلفًا من جانب إدارات سابقة يتطلب وقتًا، كما أن الأمر مرهون أيضًا بشخص وزير الخارجية الأمريكي القادم، والمستشار الذي سيعيّنه ترامب لشئون الشرق الأوسط، وهو حتى كتابة هذا المقال (11 نوفمبر) أمر لم يُعلن بعد.
أما الملف السوري فهو الملف المقلق للمملكة، إذ يميل ترامب في تصريحاته الانتخابية إلى دعم نظام بشار الأسد في ظل غياب البديل الملائم، والبديل في حال تنحي الأسد -كما يعتقد ترامب- هو الإسلام المتطرف وتنظيماته مثل "داعش" و"جبهة النصرة". وباعتبار أن فصل المعارضة المعتدلة عن نظيرتها الإسلامية المتشددة في سوريا -في الوقت الراهن- يبدو أمرًا غير ممكن، وفي ظل معارضة ترامب التدخل الأمريكي المباشر في سوريا، وإعطائه أولوية للقضاء على داعش؛ فإن بقاء الأسد هو الحل، وهو ما يعني تباينًا حادًّا مع وجهة النظر السعودية التي ترى أنه لا حل سياسيًّا في سوريا دون أن يرحل نظام بشار الأسد. وهنا فإن المملكة سيكون عليها البحث عن تحالفات مختلفة أخرى تدعم رؤيتها الرامية إلى إزاحة نظام الأسد.
أوراق القوة السعودية:
تفاوتت الرؤى والتحليلات التي أعقبت فوز ترامب حول العلاقات السعودية-الأمريكية تفاوتًا كبيرًا، فهناك تحليلات شديدة التشاؤم ترى أن على المملكة البحث عن حليف غير الولايات المتحدة، وهو ما ظهر في مقالة "ماكس فيشر" في صحيفة "نيويورك تايمز" في (9 نوفمبر 2016). وتوجد رؤى أكثر هدوءًا تراهن على أن الدبلوماسية السعودية قوية بما يكفي للتعامل مع الأوضاع غير المألوفة ومراحل عدم اليقين، وأنها عبّرت مواقف أشد صعوبة وحساسية بقدر كبير من النجاح.
فقد مرت العلاقات الأمريكية-السعودية بتوترات واضحة خلال إدارة الرئيس أوباما، وأدركت خلالها المملكة أن الاعتماد على الولايات المتحدة بصورة أساسية لضمان أمنها لم يعد قابلا للاستمرار، وبالفعل تبنت المملكة سياسة خارجية مختلفة اعتمدت فيها على نفسها وعلى حلفاء جدد.
كذلك فإن ملف "جاستا" لا يزال يشغل السعودية، خاصة أن فرص تعديل القانون لصالح المملكة ضعيفة مع وجود كونجرس ذي أغلبية جمهورية، مما يعني دعمًا مضاعفًا للقانون الذي يتيح مقاضاة المملكة. والأمر الآخر المقلق للمملكة هو النظرة إلى المسلمين والهجوم على الإسلام كدين بغض النظر عن ارتباطه بالتطرف من عدمه، لأن ذلك يمكن أن يدعم التطرف الإسلامي بصورة أخرى.
ولم يعد النفط ورقة ضغط رئيسية في يد المملكة كما كان الأمر في السابق، لكن هناك أوراقًا أخرى يُمكن للرياض أن تستخدمها في صياغة علاقاتها مع الإدارة الجديدة، منها:
- التعاون الأمني والاستخباراتي بين الولايات المتحدة والمملكة، فوفقًا لوثيقة صادرة عن الخارجية الأمريكية في مارس 2016، تلعب السعودية دورًا حاسمًا في الحفاظ على الأمن في منطقة الشرق الأوسط، بفضل سياستها الاقتصادية، وتوجهاتها السياسية، وأهميتها الثقافية، وموقعها الاستراتيجي. وتشير الوثيقة إلى أن الولايات المتحدة ستعمل مع المملكة على دعم جهود مكافحة الإرهاب والمصالح المشتركة والاستقرار الإقليمي. ومن ثم، ستواصل الولايات المتحدة التعاون مع المملكة لتحسين تدريب قوات العمليات الخاصة ومكافحة الإرهاب، وإدماج نظم الدفاع الجوي والصاروخي، وتقوية الدفاعات الحاسوبية، وتعزيز الأمن البحري.
- صفقات التسليح، إذ تُعد المملكة من أكبر المشترين الخارجيين للسلاح الأمريكي، بمبيعات نشطة تُقدر بما يقارب 100 مليار دولار خلال السنوات الأخيرة. وفي نوفمبر 2015، وافقت الولايات المتحدة على مبيعات عسكرية للمملكة لتزويدها بذخائر جو-أرض والمعدات المرتبطة بها، وقطع الغيار والدعم اللوجستي بمبلغ 1.29 مليار دولار. وفي أكتوبر 2015، وافقت الولايات المتحدة على صفقة عسكرية للمملكة العربية السعودية عبارة عن سفن قتالية متعددة المهام والمعدات المرتبطة بها وقطع الغيار والدعم اللوجستي بمبلغ 11.25 مليار دولار. وفي ظل إدارة جمهورية ودعم معلن من ترامب للمجمع الصناعي العسكري، فإن الشراكة مع المملكة ستعد حيوية في هذا السياق.
- العلاقات الاقتصادية والتجارية، فالمملكة شريك تجاري مهم للولايات المتحدة، حيث تحتل المرتبة الثانية عشرة بين شركائها التجاريين، وبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين عام 2015 نحو 45 مليار دولار. كما أن للمملكة نحو 750 مليار دولار من الاستثمارات والودائع والأصول المالية في الأسواق الأمريكية؛ من بينها 119 مليارًا سندات خزانة.
- تقوية المملكة للعمل الخليجي المشترك يُمكن أن يقدم خيارات بديلة أمام دول المنطقة ككل من أجل توفير بدائل ذاتية للأمن والاستقرار، وهو ما اتضح في "عاصفة الحزم".
ختامًا، أمام السعودية تحديات في التعامل مع سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة، ستتطلب صياغة سياسة خارجية متكاملة، وهو أمر يحتاج إلى بعض الوقت لاستيضاح الأمور، أخذًا في الاعتبار أنه من الصعب الحكم لحظيًّا بأن تكون إدارة ترامب مصدر قلق أو مصدر فرصة للمملكة، وأن لدى المملكة من الأوراق ما يمكّنها من تحسين مكاسبها في علاقتها بالولايات المتحدة وإدارتها الجديدة.